نَهْضةُ الناخبِ العربيَّ الأمريكيِّ
بقلم: أندي الرَّعْد.. الباحث في شؤون الشرق الأوسط
خلفيتي:
أقمتُ بأرض مصرَ، فلا ورائي، وبعدَ عشر سنواتٍ ما تعبتُ، ولا أمامي، إنني كنت أَدْرُس اللغة العربية، وفي الوقت نفسه أُدَرِّس اللغة الإنجليزية في أرض الكنانة التي مكثتُ بها، وتزوَّجت فيها من مصرية. ويقال: إن من عاشرَ القومَ أربعين يومًا صارَ منهم. وفي هذا العام بعدما قرَّر الرئيس يوسف بايدن الانسحابَ من الانتخابات الرئاسية، واستُبدِل به نائبتُه كَامَلَا هاريس، قرَّرتُ الاشتراك في حملة الانتخابات الرئاسية للعام الحالي.
قديمًا، انتسبت للحزب الجمهوري، وعملت في حملة الانتخابات الرئاسية للرئيس بوش الابن عام ٢٠٠٤م، لكن حينما ظهر دونالد ترامب على منصة السياسة الأمريكية عام ٢٠١٦م، والذي حوَّل الحزب الجمهوري من حزب سياسي إلى حزب متمحور حول شخصيته النرجسية، قرَّرْت اعتزال الحزب الجمهوري بلا رجعة؛ حيث لم يبقَ فيه مكان للتسامح والتنوع الفكري.
والآنَ أنا متطوِّع في حملة الانتخابات الرئاسية لأجل كَامَلَا هاريس في مدينة ديربورن في ولاية ميشيغان، مثل الآخرين من أنحاء الوطن. لقد سافرت إلى هذه المدينة لإقناع الناخبين العرب بها، مستخدمًا اللغة العربية التي تعلمتها من الشعب المصري العظيم، فنتجوَّل يوميًّا في الشوارع، ونطرُق الأبواب، ونشجِّع الناخبين إلى أن يصوِّتوا لمرشحتنا.
تاريخ العرب في ولاية ميشيغان:
يستطيع أن يرى الزائر معالمَ “تشير” لهنري فورد، مخترع السيارة الحديثة، في كلِّ مكان حول تلك المدينة، حيث يقع مقر شركة فورد في شارعها الرئيس – شارع ميشيغان – وهو مبنى زاهٍ مكعَّب الشكل، يقف شامخًا كأنه مبنًى للأمم المتحدة، فتجد صفوفَ الأعلام تُرفرف أمامه، رمزًا للعلاقات التجارية لهذه الشركة حول العالم، وسيرى الزائر أيضًا مكتبة فورد، وستاد فورد، ومركز مؤتمرات فورد، فحينما أتحدث مع شعب ميشيغان العظيم يبدون كأنَّ معظمهم يعملون في شركة فورد بصورة أو بأخرى.
في مطلع القرن العشرين، كان معظم المهاجرين العرب إلى الولايات المتحدة مسيحيين، لكن الذين وصلوا إلى مدينة ديربورن في العشرينيات كانوا مسلمين من جنوب لبنان. وبعضهم الآخر من هؤلاء المهاجرين فرَّ من الحرب الأهلية اليمنية، والاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية عام ١٩٦٧م، حتى تنفَّسَت ديربورن حياة جديدة.
إن عدد السكان العرب في ولاية ميشيغان حوالي ٣٠٠,٠٠٠ نسمة، وفقًا لتعداد السكان، وفي ديربورن تقريبًا حوالي ١٠٠,٠٠٠ نسمة عام ٢٠٢٤م، ونسبة ٥٥٪ منهم عرب من لبنان واليمن والعراق وسوريا والأردن وفلسطين.
وفي عام ٢٠١٨م انتخبت رشيدة طليب لتكون أول نائبة أمريكية من أصول فلسطينية في الكونجرس من هذه المنطقة، وفي عام ٢٠٢١ صار عبدالله حمود – ذو الـ ٣٤ عامًا – محافظًا لمدينة ديربورن، وفي الصيف الماضي، دعم المحافظ اليمني الأمريكي لمدينة هامترامك – وهي مجاورة لديربورن – المرشح ترامب، وهذا يمثل انعكاسًا للنفوذ الديموجرافي والسياسي المتزايد للسكان العرب في أمريكا.
إنه في عام ٢٠١٦م تغلَّب ترامب على منافسته كلينتون بفارق ٠.٢٣٪ (١٠,٧٠٤ تصويت)، وفي عام ٢٠٢٠م تغلَّب بايدن على منافسه ترامب بفارق ٢.٨٪ (١٥٤,١٨٨ تصويت)، أما هذا العام فمن المتوقع أن تكون النتيجة متقاربة للغاية، وتلك الفروق الطفيفة تضفي أهمية محورية لديربورن في سباق البيت الأبيض.
وحينما قابل الحاكم حمود نائبة الرئيس كَامَلَا هاريس في الصيف الماضي في اجتماع سِرِّيٍّ، وَبَّخَها قائلًا: كيف لكِ أن تؤيدي إبادة جماعية؟! فباءت بالصمت. وفي يوم الجمعة الماضية زار الرئيس السابق ترامب المجتمع العربي الأمريكي في ديربورن، وهذه الزيارة تعدُّ الأولى لأي مرشح للرئاسة، فتبادر إلى ذهني السؤال التالي: هل الصوت العربي قد صار له من التأثير بمكان بحيث يتهافت عليه المرشحون الرئاسيون؟ هل وصل الناخب العربي إلى هذا النفوذ؟!
مغارة علي بابا:
كان هيكل عظمي على حشيش الجنينة بمدخل البيت، ولم يتبقَّ أي عضلات على العظم، فدقَّ قلبي بشدة من الخوف، حتى ظننت أنه أقام بجانب البيت منذ أشهر، فهرعت باتجاه مدخل البيت، وطرقت الباب ثلاث مرات، انتظرت دقيقة أعد الثواني: ٥، ١٠، ١٥، ٢٠، ٢٥، ٣٠، ٣٥، ٤٠، ٤٥، ٥٠، ٥٥، ٦٠… يبدو أنه لا أحدَ في البيت، فتركت إعلانًا على عتبة الباب مكتوبًا عليه: كَامَلَا هاريس للرئاسة!
هذا هو المشهد الأساسي من أيام حملة الانتخابات الأمريكية، الهيكل العظمي مزيف، وهو ديكور عيد الهلع “الهالوين” في نهاية شهر أكتوبر، وعند بيوت أخرى سترى أشباحًا وساحرات تطير في الهواء. عادة – وربتما ٩٠٪ منهم في هذا الوقت – لا أحد في البيت، أو هم بالداخل، لكن لا يريد أيُّ أحدٍ فتحَ الباب لغريب؛ لأنهم تعبوا من الإعلانات ومتطوعي الحملات الانتخابية.
التواصل مع الناخبين:
نمشي – أنا والمتطوعون الآخرون – ليل نهار في شوارع مدينة ديربورن، طارقين على الأبواب… وتدور هذه المشاهد في ذهني على الدوام:
١– زوجان:
في اليوم الأول: أنا وكريستا، المتطوعة العجوز من ألمانيا، ذهبنا إلى مبنى ممتلئ بالمتقاعدين مثل الأرز، فما لبثنا أن وصلنا إليه حتى لاحظنا أن أغلبية السكان من الشرق الأوسط، وفي بداية وصولنا وجدنا أبوابًا عديدة مغلقة، وجملة منتشرة وسط مجتمع المهاجرين: لا إنجليزية! فرددت على الصوت المجهول وراء الباب الغليظ: ممكن باللغة العربية؟! ومثل الحجر الضخم على باب مغارة علي بابا، فُتح الباب على الفور، وخرج لنا زوجان صباحًا يبتسمان.
٢– ثلاث عجائز:
ذلك اليوم، قابلنا ثلاث عجائز من لبنان والعراق، لم يكن يعرفن لمن يصوتن، فطلبن منا النصيحة، وبالطبع رددنا عليهن: كَامَلَا!
– “هل هي طيبة؟!”
رددت على الفور: هي طيبة! فقالت اللبنانية: تمام، سنصوِّت لها! ثم دعتنا إلى شرب القهوة وأكل الكعك في شقتها، وبسبب جدولنا المشغول جدًّا أخذنا الكعك، ولم نشرب، وقبل أن نغادر جاءت جارتهن، وسألت السؤال نفسه: لمن أصوت؟ فعرضنا عليها الجواب نفسه: كَامَلَا! فاستقبلت نصيحتنا، وحقًّا شعرنا أننا لهن لَناصحان. وعددنا الزيارة الأولى ناجحة للغاية، وشعرت كأنني مبشِّر بدينٍ غريب.
إننا استخدمنا الأسلوب نفسه للأبواب كافة؛ نطرق الباب، وننتظر دقيقة، فإذا كان الباب مغلقًا نترك إعلانًا أمامَه، وإذا كان الشخص موجودًا، نسأله: هل تنوي أن تصوِّت؟ عند اللجنة أو بالبريد؟!
٣– حسن:
تاجر لبناني ثلاثيني، يملك محلين، لكنه لا يستطيع أن يكسب أرباحًا حاليًا، ويشعر بإحباط شديد، وهذا الرجل يمثل ٤٣ تصويتًا في أسرته، ذكر لي أنهم – بعد مناقشة طويلة وساخنة – قرروا ألا يصوتوا في الانتخابات، فحاولت إقناعه بالتصويت، لكنه رفض، وخَيَّم عليه الحزن العميق، فودَّعْتٌه، واستدرت باتجاه البيت التالي.
٤- سارا:
سيدة يمنية مولودة في هذه الولاية، تزوَّجت عن عمر ١٦ عامًا، وأنجبت خمسة أبناء. صوَّت زوجها للرئيس ترامب، لكنها حائرة، هي لا تشاهد التلفاز أبدًا، وتفتقد كثيرًا من المعلومات، فسألتني، مَنْ أختار؟! فرددت عليها مباشرة: كَامَلَا هاريس!
لماذا؟!
فوجَّهْت هذا السؤال إليها: ما المسألة المهمة لك؟!
سألتني: من سيحسِّنُ مستقبل أبنائي؟!
فحكيت لها قصة زوجتي؛ التي تزوَّجتُها منذ عامين، وأنها في انتظار التأشيرة عامًا وشهرين، فإذا عاد ترامب إلى البيت الأبيض، فقد تتأجَّل التأشيرة أكثرَ وأكثرَ، ومن المحتمل الكبير أن يُلغيَها.
قالت سارا: إنها ستدعو لزوجتي أن تحصل على التأشيرة، وستصوِّت لكَامَلَا!
٥- أحمد:
عمل أحمد سابقًا في حملة الرئيس الأسبق أوباما، وكان يصوِّت للديموقراطيين دائمًا، لكنه لن يؤيِّد هاريس الآن بسبب الحرب؛ فقد قُتل ابن عمه في قصف في لبنان.
٦- صرخة:
صرخ رجل ثلاثيني في وجهي قادمًا من مطبخه، وهو يقول: إنه لن يصوت أبدًا للحزب الديمقراطي، قاتل النساء والأطفال الأبرياء. فصمَتُّ، ونظرت إليه، وردَّت عليه زوجُه بأن يهدأ، فاعتذر قائلًا: إنه ليس غاضبًا مني، بل من الحزب الديموقراطي، فشكرني، وانصرفت، إنه دائمًا يبهرني العربي، من جبِّ الألم والغيظ من الحروب الحالية، يستطيع أن يحتفظ بالاحترام والذوق.
الإمام ميخائيل:
كان الإمام ميخائيل غير مؤيِّد لكَامَلَا هاريس، لكن بعد أن اعترفت بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، تراجع عن موقفه وأيدها.
٧- مُصَلِّحُ الأسقف:
قابلت رجلًا يعمل في تصليح الأسقف، ذا وجه غاضب، ومؤيد لترامب، قال: إن عمله كان مزدهرًا عندما كان ترامب رئيسًا، لكنه الآن لا يجد ما يكفي حاجته، زد على ذلك، لقد اضطرت ابنته إلى ترك الجامعة، والعمل من أجل دفع مصاريفها الجامعية للعام المقبل. لقد سمعت تلك الكلمات كثيرًا من العرب والأمريكيين!!
الجيل القادم
1- يونس:
جاءني يونس – عمره ١٢ عامًا – بدراجته، فسألني: لماذا ترامب ليس موجودًا في إعلانك؟! فشرحت له أنني أعزِّزُ كَامَلَا هاريس فقط، فقال لي: إن هاريس قاتلة العرب! أخرجت إعلانًا آخر لمعلومات عن شتائم ترامب، حين قال: إن الإسلام يكرهنا، وأنه يريد منع اللاجئين من غزة. صار الولد مصدومًا، فأعطيته الورقة الجديدة، فتركني على الفور.
2- المحجبة:
فتحت لي البابَ فتاةٌ محجبة، ذات ١٤ عامًا، فتحدثنا مدة ١٥ دقيقة، لقد انشغلت والدتها بالمطبخ، ولم تخرج منه! سألت الفتاة عن الانتخابات، وحدَّثْتها عن أهمية الإدلاء بالصوت، وحدثتها عن نساء الشرق الأوسط اللائي لا يُسمح لهن برئاسة الدولة.
من المفارقة أن الكبار لا يفتحون الأبواب، ولا يرغبون في الحديث معي، على حين يفتح الصغار أبوابهم وعقولهم لي، ويا ليته كان للأطفال حق التصويت!!
إن الصوت العربي الأمريكي منقسم حاليًا إلى أربع فرق: مؤيدو ترامب، مؤيدو هاريس، ممتنعون عن التصويت، مؤيدو الحزب الأخضر؛ للتعبير عن غضبهم من الحروب لدى كلا الحزبين.
لقد حَثَّتِ اللجنة العربية الأمريكية للعمل السياسي AAPAC منذ قليل الناخبين العرب على ألا يصوِّتوا لأي أحد، تأمَّلت خلفيتها، فوفقًا لموقع أسرار مفتوحة، جمعت هذه اللجنة ٢٤,٠٠٠$ عام ٢٠٢٢م، لكن في هذا العام جمعت ٥٠٠$ فقط، بالمقارنة سعر سيارة تسلا الجديدة أكثر من هذا المبلغ بالضعف! وفي المقابل، جمعت اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للعمل السياسي (AIPAC) 43,000,000$ تقريبًا عام ٢٠٢٤م، فإذا قارنَّا الطرفين بالسيارات، فإن لدى اليهود تسلات أكثر من العرب بـ ١٠٧٥ واحدة، ومن ثم فنصيحة اللجنة العربية سخيفة للغاية؛ إنه كيان مبتدئ بلا أي خبرة في السياسة الأمريكية.
النتيجة
سأل ترامب الحاضرين: هل لديكم حياة أفضل الآن من ذي قبل؟
يتشابه هذا السؤال بما قاله الرئيس رونالد ريجان عام ١٩٨٠م عندما تحدَّى الرئيس كارتر، فرَدَّ الناخبون آنذاك بطرد كارتر من السلطة.
إذا فشلت كَامَلَا هاريس في هذه الانتخابات، لنا أن نتهم الصوت العربي أولًا كونهم لم يؤيدوها في هذا الوقت الحرج، لكن إذا كسبت، يمكن لنا أن نقول: إنها نالت الانتصار على الرغم من غضب العرب، ولئن كسبت كَامَلَا دون دعم العرب، إنَّهم إذًا لخاسرون!!
يقال: إن الهزيمة كالابن اليتيم، لكن الانتصار لديه ألف والد، فمهما كانت النتيجة بعد يوم الانتخابات، نكون قد وصلنا إلى نقطتين:
١. أن الناخبين العرب لا يزالون خارج باب التأثير وصناعة القرار، مع أنهم يظنون معرفة أين المفتاح لذلك الباب، لكن أكثر الناس لا يعلمون.
٢. الآن، نحن نشهد نهضة الصوت العربي عمومًا في أمريكا، وخصوصًا في ميشيغان متجسدًا في مدينتي ديربورن وهامترامك. فهذا المجتمع لديه إمكانية كبيرة ليُغيِّرَ السياسة الأمريكية عبر الحزب الديمقراطي، ولمَّا يبلغِ المجتمع العربي هذا – بعدُ – أشُدَّه، لكن، وبمرور الوقت، إن شاء الله سيصل، ويومئذٍ يفرحُ الناخبون العرب!
الرياض 24 ، موقع إخباري شامل يهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري بما يليق بقواعد وقيم الأسرة السعودية، لذلك نقدم لكم مجموعة كبيرة من الأخبار المتنوعة داخل الأقسام التالية، الأخبار العالمية و المحلية، الاقتصاد، تكنولوجيا ، فن، أخبار الرياضة، منوعات و سياحة.